الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ}.التوراة الفاصلة بين الحق والباطل الفارقة بين الهدى والضلال {وَضِياءً} نورا يعرف به طريق الرشد من الغي {وَذِكْرًا} يتذكر به ما يحتاجه بنو إسرائيل من أمور دينهم ودنياهم وعظة يتعظون بها وعبرة {لِلْمُتَّقِينَ} 48 الذين يعتبرون بما فيها ويعملون.ثم وصف هؤلاء المتقين الذين يعملون بالفرقان الموصوف بالأوصاف المذكورة بقوله: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} من حيث لم يرونه فيعبدونه في خلواتهم إذا غابوا عن أعين الناس ويمتنعون من مخالفته خوفا من أن يراهم لعلمهم أنه مطلع على سرّهم وجهرهم، لأن من عبد اللّه وعلم أنه يراه أحسن عبادته وخشع فيها وخضع لربه {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} 49 خائفون من هولها قبل أن يروها لأنهم آمنوا بها على الغيب تصديقا لرسلهم وكتابهم {وَهذا} القرآن {ذِكْرٌ مُبارَكٌ} عظيم الخير كثير البركات جامع لمنافع الدنيا والآخرة {أَنْزَلْناهُ} عليك يا سيد الرسل كما أنزلنا الكتب على من قبلك عيسى وموسى فمن قبلهم {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} 50 يا أهل مكة إنزاله على نبيكم وشمول بركته لكم وخيره فيكم، وهل أنتم جاحدون صحبته، وهذا استفهام على طريق الإنكار والتقريع يضاهي ما جاء في الآية 175 من سورة الأنعام المارة.قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا إبراهيم رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} موسى وهارون {وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ} 51 بأنه أهل لما آتيناه لما هو عليه من الكمال والإخلاص لنا، قالوا لما ألقي في النار قال له جبريل عليهما السلام سل ربك ينقذك منها، قال له علمه بحالي يغني عن سؤالي، وقال ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا.فهذا كاف على إخلاصه لربه، فاذكر يا محمد لقومك شأنه هذا مع قومه وأهله {إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ} 52 أراد عليه السلام ما هذه الأصنام، ولَكِنه تحقيرا لها وتقريعا لهم بعبادتها، عبر عنها بالتماثيل وهي الصور المصنوعة المشبهة بالمخلوقين من إنسان وحيوان وطير وحوت وغيرها، أي ما بالكم مقبلون عليها ملازمون لها منهمكون في عبادتها {قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ} 53 فعبدناها تقليدا لهم {قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 54 بالعكوف عليها لا يخفى على عاقل وان استنادكم للتقليد عبارة عن هوى متبع وشيطان مطاع وإعجاب بما تصنعون {قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ} أي الصدق لمقابلة قولهم {أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} 55 الهازئين في قولك لأنا لم نسمع هذا إلا منك {قالَ} يا قوم إن هذه لا تصلح للعبادة وليست برب ينفع ويضر ويحيي ويميت {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالأرض الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 56 وجازم بقولي لكم بأنها ليست بآلهة لأنها من عملكم واللّه خلقكم وما تعملون ولست بهازل ولا من شأني اللعب وأريد لكم ما أريد لنفسي {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ} التي تخوفوني بها ولأفعلن بها فعلا يكيدكم {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} 57 من هنا إلى عيدكم، وذلك أن أباه كلفه، وقيل الملك أراده أن يذهب مع قومه إلى العيد، فسار معه ثم ألقى نفسه بأثناء سيره معهم لشدة تفكره وتأثره من صنيعهم على الأرض وقال إني سقيم، راجع قصته في الآية 89 من سورة الصافات والآية 78 من سورة الأنعام المارتين، فتركه أبوه ومضى إلى عبده فرجع إبراهيم إلى بيت الآلهة فوجدها في بهو عظيم، وبمستقبل بابه صنم كبير إلى جنبه أصغر منه، وهكذا بقية الأصنام، ورأى بين أيديهم طعاما وضعوه لتحل عليه بركتها، فيأكلوه بعد رجوعهم من مراسم العيد والتبرك بالأصنام، فقال لهم على طريق السخرية ألا تأكلون؟ فلم يردوا عليه فقال لهم استهزاء بهم ما لكم لا تنطقون؟ فلم يردوا عليه، فطفق يكسرها حتى أتى على آخرها، ووضع الفأس في عنق كبيرهم الذي لم يتعرض إليه كما حكى اللّه عنه {فَجَعَلَهُمْ جُذاذًا} قطعا كبيرة وصغيرة، من الجذ الذي هو القطع، قال الشاعر:
{إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} لعابديها لم يتعرض له، وهذا أولى من عود الضمير لنفس الأصنام، إذ لو كان لها كما مشى عليه بعض المفسرين لقال كبيرها ويؤيده أيضا قوله: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} 58 فيسألونه عمن كسرها لأنه بقي صحيحا وآلة التكسير في عنقه، قالوا كانت اثنتين وسبعين صنما منها من ذهب ومنها من فضة ومن نحاس وصفر وحديد وخشب وحجر وطين، فلما رجعوا من عيدهم ودخلوا على البهو رأوا ما هالهم {قالُوا} صائحين بلسان واحد {مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} 59 في جرأته هذه المؤدية لإهلاكه {قالُوا} الذين سمعوا صياحهم وسمعوا قبل قسم إبراهيم على كيدها {سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} بسوء ويعيبهم ويسخر بهم {يُقالُ لَهُ إبراهيم} 60 فأوصلوا الخبر إلى النمروذ وملائه فأجمع رأيهم على جلبه واستنطاقه أولا ولهذا {قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} 61 على اعترافه بذلك لئلا يقول الناس إنه أخذ بغير ذنب وقتل بغير بينة، فأتوا به ثم له {قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إبراهيم} 62 ولما ذا {قالَ} ما فعلت شيئا وقصد غير تكسيرها وما عملت شيئا يسخط اللّه فيها {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} ففهموا من كلامه هذا أن الذي كسرها هو الصنم الكبير المشار إليه من قبل إبراهيم، وقد وقف بعضهم على {بل فعله}، ثم ابتدأ فقرأ {كبيرهم هذا} إلخ. يريد بذلك عود الضمير على إبراهيم تخلصا من الكذب، ووقف بعضهم على هذا، وأراد أي هذا قولي فاسألوهم..إلخ. لأجل التخلص من الكذب أيضا، والحال أن الكذب للمصلحة جائز من النبي وغيره إذا كان هناك محذور كما هنا، فلا حاجة للوقفين اللذين لم يردهما إبراهيم نفسه، أي إنما كسرها كبيرهم بسبب غضبه عليكم، لأنكم تعبدون الصغار معه وتساوونها به وهو أكبر منها، فكرهن ليستقل بعبادتكم. قالوا ما بينتك على هذا؟ قال لا بينة لي سوى وجود آلة التكسير لديه كما شاهدتموها، فإن لم تصدقوني {فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ} 63 أراد بهذا إقامة الحجة عليهم لأنها إذا قدرت على النطق قدرت على الفعل، وإلا فيظهر لهم عجزها.قال تعالى: {فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ} لما سمعوا قوله وتفكروا به فلم يكن لهم بد إلا الاعتراف بعجزها {فَقالُوا} أولا لبعضهم {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} 64 بعبادتكم ما لا يتكلم، لأن من لم يدفع عن رأسه الفأس كيف يدفع عن عابديه البأس، وقد أجرى اللّه الحق على لسانهم أثناء المذاكرة فيما بينهم على غياب من إبراهيم بدليل ما حكى تعالى عنهم {فرجعوا إلى أنفسهم} وقد لحقهم الشقاء المبعد عن الحق المهوي بهم إلى الباطل المشار إليه بقوله تعالى {ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ} أي ردّوا إلى تعصبهم وآرائهم الفاسدة عن الفكرة المستقيمة الصالحة في تظليمهم أنفسهم فقالوا له {لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} 65 فكيف تكلفنا سؤالهم فلما رأى الحجة اتجهت عليهم {قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ} إن عبدتموه {شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ} 66 إن تركتم عبادتها {أُفٍّ} راجع معناه في الآية 23 من الإسراء {لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 67 أنها لا تستحق العبادة فتتركونها، ثم طفق يندد بهم وبآلهتهم ويذمها ويحقرها ويسفههم، ولما جابههم بذلك وعرفوا أنه هو الفاعل حكموا عليه بما ذكره اللّه بقوله: {قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ} 68 به شيئا يرفع العار عنكم وعن آلهتكم، لأنه طعن فيكم ووصم آلهتكم جهرا ولم يحترم أحدا ولم يقلع عما هو عليه ولم يعتذر، قالوا فقبضوه وحبسوه في حظيرة في قرية كوني، وأمر النمروذ الناس بجمع الحطب مدة ستة أشهر، حتى صار المرضى وذو العاهات والحاجات ينذرون جمع الحطب لإحراقه إذا أجيبت دعواتهم، قاتلهم اللّه ما أحمقهم، ثم أوقدوا ما جمعوه مدة سبعة أيام حتى صارت الطير في جو السماء تحترق من وهجها، فأخرجوا إبراهيم ليلقوه فيها، فلم يقدروا أن يتقربوا منها ولم يعلموا كيفية إلقائه بوسطها ليتم لهم ما قرروه، قالوا فخرج إبليس على صورة رجل منهم فعلمهم عمل المنجنيق آلة قاذفة فعملوه ووضعوه فيه مقيدا مغلولا ورموه في تلك المقذفة من محل عال مشرف على وسط النار، فتداركه الذي ألهمه ما عمل وأنطقه بما قال جلت قدرته بقوله: {يا نارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلى إبراهيم} 69 فكانت كذلك لأنها لا تحرق إلا بخلق اللّه الإحراق فيها {وَأَرادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْناهُمُ الأخسرين} 70 في سعيهم وعدم حصول مرادهم {وَنَجَّيْناهُ وَلُوطًا إِلَى الأرض الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ} 71 أرض الشام والقدس.
|